مرحلة سن الرشد
بينما المراهقة على وشك الانتهاء، يصبح الشخص البالغ غير محتاج إلى المجموعةِ التي ينتمي إليها منِ أجل إحساسه بالأمن. وبدلاً مِن ذلك فإن حياته قَدْ تَتركّزُ حول عدد صغير مِن الناسِ يشتملون على بضعة أصدقاء مقرّبين، وصديق أو صديقة من الجنس الآخر. في النهاية، فعنق الزجاجة تلك والقاعدة الأمنية ترَتكزانِ على شخص واحد معيّن. وفي هذه النقطة، نجد علاقات أكثر ديمومة، وأعمق تطوّراً، وواحدة من تلك العلاقات قد تؤدّي إلى الزواج . فالعلاقة الوثيقة مع الشخص الآخر تعمل كمصدر لإيجاد وإظهار استقلاله الحقيقي.
وفي الحياةِ عُموماً هناك بَعْض المعالجين يعتبرون الوصول إلى هذه المرحلة الذروة في نضج شخصية الفرد المتكامل. بينما يَعتقدُ بعض المعالجين الآخرين أن تلك المرحلة ما زال ينقصها خطوة تنظيمية ضرورية أخرى، ألا وهي تَضمين تغيير مفهوم الأمنِ المُكتَسب مِن إنسان آخر إلى الأمنِ المستند على احترام النفس ، وهذا له جذوره ومقرّه في الشعور، أَعْرف حاجاتي وقِيمي، لكن أَنا راغب دائما في إعادة تَفحص نفسي وتغييّر ذاتي؛ فأنا أريد الشعور والإحساس بعمق، وأن أَتصرّف بقوةٍ، وأن أَتعلّق مباشرةً بالآخرين، الذين أتوسم الخير فيهم، وإلى الآن فأنا دائما أجيد تلمس أعماقِ نفسي و معرفة أسرارها.
يقول أرسطو طاليس: أصعب شيء أن يعرف الإنسان نفسه، وأسهل شيء أن ينصح غيره. وقيل أيضاً: من يعرف الناس يكون ذكيا ولكن من يعرف نفسه يكون أذكى
وللوصول إلى حالةِ الشخص الناضجِ المتكاملِ، يَجِبُ عليك أَنْ تُدركَ أنهّ إذا تغيّر سلوك واحد لديك، فإن كلّ سلسلة السلوك ذات العلاقة سوف تتغير. كما أن عليك أن تَتعلّم مهارات جديدةَ، مع تغييّر سلوَكياتك غير المرغوبة، أنت يُمْكِنك أَنْ تُغيّرَ مشاعِرَك، وكامل نمطِ منظومتِكَ النفسيةِ. وبهذه الطريقة، يمكنك أن تدرب نفسك على تأكيد ذاتك؛ وهذا ينشأ عنه أسلوب حياة جديد ككُلّ.
وإذا أردت أن تستمع لقصة حاكم أصر على تأكيد ذاته كسلطان قوي هُمَام صاحب رأي وعزيمة، والذي فقد سلطانه ثم استرده من الطامعين ثلاث مرات، ولم يثنه ذلك من أن يكون مجاهداً عملاقاً، وحاكماً يُحسِن قيادة حكومته، وينشر الرخاء والاستقرار في ربوع سلطنته، ويقمع الفتن، ويكسر شوكة الظالمين والأمراء المشاكسين، وذلك رغم بعض الهزائم التي لحقت به أحياناً إلا أن تلك الهزائم لم تفت في عضده وعزمه وهمته، وأصبح عصره الذهبي مضرب المثل لقوة دولة المماليك في العالم الإسلامي بالقرون الوسطى
الرشد في اللغة العربية هو نقيض الغي والسفه, والراشد هو من يصيب وجه الأمر والطريق, ولا يكون الإنسان كذلك إلّا إذا بلغ "اكتمال النضج
محكات الرشد:
ينبه القرآن الكريم إلى أن الحكم على الإنسان بالرشد أمرٌ يحتاج إلى التعرف على علاماته "وإيناس" إشاراته1، وهو أمر يحتاج أيضًا إلى خبرة العلم ونتائجه، ومنه علم النفس، يقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
وهكذا يفتح القرآن الكريم للإنسان باب الاجتهاد والبحث في المحكات التي يجب أن يعتمد عليها في الحكم على المراهق أو الشاب بأنه بلغ الرشد, ونعرض فيما يلي المحكات المختلفة التي استُخْدِمَتْ في مختلف العصور للوصول إلى هذا الحكم.
1- المحك الجنسي:
يشيع في الثقافات البدائية -ولدى عدد من الشعوب المتحضرة حتى وقتنا الحاضر- تعيين الرشد بحدود بيولوجية، فيبدأ بالبلوغ الجنسي, وينتهي بتوقف هذا النشاط " وهو يشيع بين العامة باسم سن اليأس climacteric , وهو مصطلح سوف نعارضه فيما بعد", وهذه جميعًا ترتبط بوظائف الجنس.
وهذا المحك ينطبق عليه ما يسميه المناطقة "الشرط الضروري" إلّا أنه ليس كافيًا؛ فالرشد يتطلب بالطبع أن يكون المرء قد بلغ جنسيًّا أولًا، إلّا أن البلوغ الجنسي لا يؤدي -حتميًّا- إلى الرشد, وقد أشرنا في الفصول السابقة كيف أن النمو الإنساني في المجتمعات الحديثة تَطَلَّبَ ظهور مرحلة أو أكثر من المراحل الانتقالية بين الطفولة والرشد؛ فالمراهقة هي طور البلوغ الجنسي خاصةً، وما يصاحبه من تغيرات جوهرية, وقد أطلقنا عليه طور بلوغ الحلم, وهي تسميةٌ قرآنية، أما طور الشباب فهي تلك الفترة الانتقالية بين اعتماد الضعف الأول "الطفولة والصبا" وقوة الرشد, وأطلقنا عليه تسمية قرآنية أخرى هي طور بلوغ السعي.
وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن ذلك بوضوح؛ ففي الآية الكريمة السابقة اعتبر
بلوغ النكاح "وهو البلوغ الجنسي" شرطًا سابقًا على الرشد، ولكنه تَطَلَّبَ منا أن نتحقق من حدوث هذا الرشد بالفعل، وهذا يعني أن الرشد قد يصاحب البلوغ الجنسي, وقد يأتي بعده, إلّا أنه بالطبع لا يسبقه.
وقد كان الرشد يتطابق مع البلوغ الجنسي في الثقافات البدائية, كما يتطابقان في بعض الثقافات البسيطة الحديثة "كالثقافة الريفية أو الثقافة البدوية", إلّا أنه مع تقدُّم المدنية تَطَلَّبَ الأمر دفع العمر المعترف به للرشد بعد سبع أو ثماني سنوات من طور البلوغ الجنسي للفرد "المراهقة", وبالمثل فإن "سن اليأس" أو التغير في الحياة من الشخص الجنسي إلى الشخص اللاجنسي asexual لا يعني فقدان الرشد.
2- محك العمر:
تتفق معظم الثقافات المعاصرة، ومنها مصر والدول العربية والإسلامية، على أن الإنسان يصل إلى رشده عند بلوغ الحادية والعشرين، وهو السن الذي يتحدد قانونيًّا بأنه إذا بلغه المرء استقلَّ بتصرفاته.
والسؤال الجوهري هنا: لماذا سن الحادية والعشرين كمحدد للرشد؟ ربما يفيدنا أن نجيب على هذا السؤال أن نتناوله في ضوء تحديد ما يسمى الحدث1 juvenile من ناحيةٍ، وفي ضوء قوانين العمل، باعتبار العمل هو أهم مؤشرات الرشد "كما سنبين فيما بعد" من ناحيةٍ أخرى. إن قوانين العمل في مصر تمنع تشغيل الأحداث قبل سن 12سنة, وذلك بالنسبة إلى الأفراد الخاضعين لقانون العمل في جمهورية مصر العربية، وأجاز القانون لوزير العمل أن يمنع تشغيل من لم يبلغوا سن 15 سنة في بعض الصناعات "قرار رقم 154 لسنة 1959", كما أجاز له أن يشترط لتشغيل هؤلاء الأحداث في بعض الصناعات أن تكون له تذاكر عمل تثبت مقدرتهم الصحية على القيام بها, كما أجازت المادة 124-3 من قانون العمل المصري لوزير العمل أن يمنع تشغيل الأحداث الذين تبلُغ سنهم 17 سنة كاملة في بعض الصناعات الأخرى "قرار رقم 156 لسنة 1959".
ولكن من هو الحدث الذي تشير إليه النصوص السابقة؟ تحدد معظم التشريعات المعاصرة الحد الأدنى للحدث "وهو حد المسئولية" ما بين 7، 8 سنوات "وهو سن التمييز في الشريعة الإسلامية"، والحد الأقصى بين 16، 18
سنة, وهذا المحك العمري يشمل فئة من الصبية والناشئة والفتيان, وأطلقت عليهم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ندوةٍ عقدتها بالكويت عام 1976 تسمية "فئة اليافعين", ويمثل الحد الأقصى لهذه المرحلة مظاهر استقلالٍ متعددةٍ تُمَثَّلُ في الوصول إلى الأهلية للمواطَنَةِ الكاملة، ومن مظاهر ذلك الحصول على البطاقة الشخصية, وبطاقة قيادة السيارة, والمثول أمام سلطات التجنيد الإجباري، وحق العمل بلا قيد، وحق الزواج وتكوين الأسرة للمرأة "في سن 16", وللرجل "في سن 18"، ناهيك عن المسئولية الجنائية الكاملة. والتناقض الجوهري "من الوجهة القانونية والتشريعية" أن يُوصَفَ هذا المواطن الذي يبلغ من العمر "16-18 سنة بأنه "قاصر", أو بأنه "طفل" كما هو الحال في قانون الطفل الجديد في مصر، بالرغم من هذا كله, وعليه أن ينتظر من 3-5 سنوات حتى يبلغ سن الرشد الذهبي 21 عامًا, فهل يستطيع علم النفس أن يحل هذه المعضلة؟ وهل نستطيع من خلال نتائجه ونتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى أن نتوصل إلى محكات أكثر تحديدًا للرشد؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها على درجة كبيرة من الأهمية في هذا الصدد، وخاصةً إذا تنبهنا إلى بضعة حقائق سيكولوجية أفرزها العصر الحديث, نذكر منها:
1- تناقص الوعي بالتغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية التي تحدث مع بلوغ الرشد والتقدم فيه، وذلك لأن الوسائل الطبية الجديدة والتغيرات في "موضات" الأزياء تساعد الرجال والنساء من مختلف الأعمار على أن يبدوا ويشعروا ويتصرفوا كما لو كانوا في غير أعمارهم, وخطوط التقسيم بين الأعمار المستخدمة في الوقت الحاضر هي معالم عامة وليست حدودًا خاصة فاصلة، وتظهر على وجه الخصوص حين يُتَوقَّعُ من المرأة أو الرجل أن يظهروا "في المتوسط" بعض التغيرات في المظهر, أو وظائف الجسم, أو جوانب السلوك، أو حين تؤدي الضغوط البيئية في ثقافة معينة إلى ظهور مشكلات تَوَافُقٍ لا يستطيع تجنبها إلّا القليل من الرجال أو النساء من عُمْرٍ معين.
2- تغير أدوار بعض المراهقين "ابتداءً من سن 16"، بل وبعض الأطفال حين يدخلون عالم العمل خاصةً مبكرين، فهم يسلكون سلوك الراشدين على نحوٍ أكثر تبكيرًا من أقرانهم الذين يواصلون تعليمهم، صحيح أنهم يحرمون من فرصة جعل هذا الانتقال من الطفولة إلى الرشد بطيئًا خلال طَوْرِيْ المراهقة والشباب, إلّا أنهم يَتَّسِمُونَ بالفعل بكثيرٍ من سمات الراشدين, على الرغم من أنهم لم يبلغوا سن
الحادية والعشرين, إلّا أن الأخطر من هذه حقًّا ما يحدث حين تطول فترة الاعتماد وتمتد أحيانًا إلى ما بعد سن الحادية والعشرين, على نحوٍ يشبه اعتماد الأطفال أو المراهقين الصغار، وخاصةً حين يلعب المراهق الكبير أو الشاب دور "الطالب", ويظل يحمل هذه الصفة وحدها في نظر "الكبار".
3- الفوارق في التبكير بالرشد أو تأخيره, وخاصة بين الجنسين من ناحيةٍ، وبين المستويات الاقتصادية الاجتماعية من ناحية أخرىٍ؛ فالمراهقات الكبيرات تطول فترة اعتمادهن لأسباب ثقافية, والذكور من أبناء المستويات الاقتصادية الاجتماعية المتوسطة والعليا أكثر اعتمادًا من أبناء المستويات الدنيا، ربما لأن هؤلاء يدخلون عالم العمل أكثر تبكيرًا من أولئك.
وهكذا يصبح الرشد السيكلولوجي -في ضوء مؤشر الاستقلال- مسألة نسبية, فهناك من يصلون إليه مبكرين "ابتداءً من السن التي تخرجهم من فئة اليافعين أو الأحداث وربما قبلها", وهناك من تمتد بهم فترة الاعتماد إلى أعمار تتعدَّى سن الرشد القانوني في صورته الراهنة.
3- المحك الاجتماعي:
يبدو لنا من مناقشتنا السابقة لمحكي البلوغ الجنسي والعمر أن الفيصل في الحكم على رشد الإنسان يعود في جوهره إلى العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية, وهذا ما اتفق عليه فقهاء المسلمين في تعريفهم للرشد بأنه بلوغ الصبي "صالحًا في دينه مصلحًا لماله", وحسن التصرف في المال -كعلامة من علامات الرشد- يعني أن الفرد قادرٌ على شغل مكانته في المجتمع, والقيام بمسئولياته فيه, وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية هذا المحك في قوله تعالى عند الإشارة إلى السفة، وهو نقيض الرشد:
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... } [النساء: 5] .
كما يشير إلى هذا المحك الاجتماعي أيضًا عند الإشارة إلى ما يجب عمله عقب التحقق من بلوغ الصبي طور الرشد: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 4] .
ويُعَدُّ هذا من جوانب الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم, ولعنا نشير هنا إلى أن علم النفس الحديث لم ينتبه إلّا مؤخرًا إلى أهمية محك الأدوار الاجتماعية في تحديد الرشد، باعتباره يفوق محك العمر الزمني, أو النضج البيولوجي, ولهذا فإن الشخص الذي يوصف الآن بالرشد هو ذلك الذي لم يعد طفلًا أو مراهقًا أو طالبًا
شابًّا، وإنما تحوَّلَ إلى أدوارٍ جديدة: الساعي لكسب العيش من خلال عمل منظم ومستمر، الزوج أو الزوجة، الوالدية, إلخ, وفي عملية التحوّل إلى الرشد يختلف الأفراد اختلافاتٍ جوهرية في توقيت هذه المهام التي يؤدونها, والأدوار التي يقومون بها, وبعبارة أخرى فإنهم يصلون إلى "مكانة الرشد" في أوقات مختلفة.
ولعلنا هنا نعيد الإشارة إلى ما سبق أن ذكرناه, من أن بعض الأشخاص قد يصلون إلى سن الخامسة والعشرين وهم لا يزالون في مرحلة التعليم، بينما يمارس غيرهم دور الزوج والوالد قبل هذه السن بسنوات، بل إن بعضهم قد يدخل سوق العمل قبل ذلك ببضع سنوات كذلك "بعد إنهاء مرحلة التعليم الأساسي في سن 15 سنة, وربما قبلها فيما اصْطُلِحَ على تسميته "عمالة الأطفال".
4- المحك السيكولوجي:
المحك الاجتماعي للرشد الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة هو محكٌّ موضوعيٌّ، إلّا أن هناك محكًّا سيكولوجيًّا يعتمد على الخبرات الذاتية للفرد، يضاف إليه ويجعله جزءًا من البنية الأساسية لشخصية الفرد, ويشير علماء النفس المعاصرون إلى بضعة مؤشرات توجه هذا المحكَّ السيكولوجي, تشمل ما يلي:
أ- العمر المدرك Perceived age: ويُقْصَدُ به العمر الذي يشعر فيه الفرد شعور ذاتيًّا أنه أصبح راشدًا, ومن الواضح أن إدراكنا لأنفسنا يعكس كثيرًا من الجوانب المختلفة "العمر الزمني، النضج البيولوجي، الأدوار الاجتماعية التي نمارسها، التوافق النفسي والاجتماعي وغيرها", ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يشعر بعض الأشخاص ويتصرفون كأنهم راشدون وهم لا يزالون ربما في طور الطفولة1, بينما نجد آخرين في منتصف العشرينات من العمر أو أواخرها, ومع ذلك يعانون من صراعٍ بين حاجاتهم ورغباتهم التي تبدو طفولية, وبين شخصية الراشد التي يصبون إليها.
ب- الاستقلال: المؤشر السيكولوجي الرئيسي للرشد هو الاستقلال, فمع الرشد يشعر المرء أنه مسئول عن نفسه وعَمَّنْ يعول، ويتخذ قراراته بنفسه دون حاجة مستمرة إلى دعم الآخرين "وخاصة من هم أكبر منه مثل الوالدين والمعلمين", ويتجه الاستقلال على وجه الخصوص إلى تلك القرارات التي تتصل بحياة الراشد الشخصية, سواء كانت هذه القرارات تافهة أو هامة, ثم إنه لا يحب أن يتدخل الآخرون في هذه الشئون، ويتحمَّل المسئوليات والنواتج المترتبة عليها.
الذي يتفق في جوهره مع مؤشر الاستقلال والمعالجة والتقصي والبحث, والتي ترتبط جميعًا بهذا النوع من التعلُّم، وتدل على تنوع الاهتمامات والميول، فإذا توقف الراشد عن التعلم كان هذا علامة النهاية من الناحية السيكولوجية.
وقد أشار القرآن الكريم إشارةً صريحةً إلى أهمية التعلم في حياة الراشدين, يقول الله تعالى في وصفه لمرحلة الشيخوخة المتأخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ... } [الحج: 5] .
وإذا كان فقدان القدرة على التعلُّمِ هو المحك القرآني الرئيسي للشيخوخة المتأخرة "الهرم أو أرذل العمر", فإن توافُرِ هذه القدرة واستمرارها في مراحل العمر السابقة على هذا التدهور في حياة الإنسان مؤشر على استمرار الرشد الإنساني.
وإذا كان الاستقلال الذي أشرنا إليه محكًّا لتحديد الرشد هو في جوهره نتاجٌ للتعلم الاجتماعي, يصبح التعلُّم حينئذٍ هو جوهر حياة الراشدين بدءًا وانتهاءً، صحيحٌ أن لكلٍّ من البداية والنهاية حدوده التشريحية والفسيولوجية والنيرولوجية، بل والقانونية، إلّا أن الرشد السيكولوجي لا يتحدد إلّا بشغفٍ إلى مزيدٍ من التعلُّم عند الاستقلال، ثم توقُّفٌ عن التعلم عند العجز والهرم، بل نكاد نقول: إن التوقف عن التعلم هو اللحد السيكولوجي للإنسان, حتى ولو عاش من بعده أعمارًا وأعمار
الحدود العملية للرشد:
حتى يمكن تناول مرحلة الرشد لا بُدَّ من اللجوء إلى بعض الحدود العملية التي تسمح لنا بتحديد نقطة البدء, ويمكن بالطبع أن نعتبر العمر القانوني للرشد من نوع هذه الحدود, صحيح أنه ليس محكًّا صارمًا جامدًا فاصلًا، وإنما هو من المرونة بحيث يسمح باستيعاب َمْن تتوافر فيه مؤشرات الرشد قبله أو بعده.
وعلى هذا, فإن الفترة من سن الرشد القانوني "21 عامًا" وحتى سن الأربعين تقريبًا, هي ما يصفه علماء النفس الارتقائيون بطور الرشد المبكر, وسوف نشير إليه بطور "بلوغ الرشد" التزامًا بالتعبير القرآني, وهو الطور الذي تحدث فيه أكبر عمليات التوافق في حياة الإنسان، وهذا ما يجعل له خصائص مميزة عن الأطوار والمراحل التي سبقته وتلك التي تليه.
ومع بلوغ سن الأربعين يكون المرء قد وصل إلى طور "بلوغ الأشد" -حسب التعبير القرآني الكريم- وبدأ طورًا جديدًا يسميه علماء النفس الارتقائيون أيضًا طور الرشد الأوسط, أو وسط العمر، والذي يمتد حتى سن الستين أو بعده بقليل, ومن الغريب أن هذه المرحلة هي الأقل استطلاعًا وبحثًا من بين جميع مراحل العمر، لأنه حتى عهد قريب لم تكن هناك إلّا مشكلات قليلة لا تتعدى حدود المشكلات الفسيولوجية المرتبطة بما يُسَمَّى التغيرات مدى الحياة, والتي بدت هامة لدرجة جذبت انتباه علماء النفس الذين شغلتهم على التوالي: الطفولة فالمراهقة, ثم ازداد الاهتمام بالشيخوخة في السنوات الأخيرة، ثم بمرحلة الرشد المبكر. أما طور بلوغ الأشد أو وسط العمر "الرشد الأوسط" فلا زالت أقل المراحل بحثًا، فلا يتوافر حولها قدر كافٍ من البحوث والمعلومات العلمية
محكات الرشد:
ينبه القرآن الكريم إلى أن الحكم على الإنسان بالرشد أمرٌ يحتاج إلى التعرف على علاماته "وإيناس" إشاراته1، وهو أمر يحتاج أيضًا إلى خبرة العلم ونتائجه، ومنه علم النفس، يقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
وهكذا يفتح القرآن الكريم للإنسان باب الاجتهاد والبحث في المحكات التي يجب أن يعتمد عليها في الحكم على المراهق أو الشاب بأنه بلغ الرشد, ونعرض فيما يلي المحكات المختلفة التي استُخْدِمَتْ في مختلف العصور للوصول إلى هذا الحكم.
1- المحك الجنسي:
يشيع في الثقافات البدائية -ولدى عدد من الشعوب المتحضرة حتى وقتنا الحاضر- تعيين الرشد بحدود بيولوجية، فيبدأ بالبلوغ الجنسي, وينتهي بتوقف هذا النشاط " وهو يشيع بين العامة باسم سن اليأس climacteric , وهو مصطلح سوف نعارضه فيما بعد", وهذه جميعًا ترتبط بوظائف الجنس.
وهذا المحك ينطبق عليه ما يسميه المناطقة "الشرط الضروري" إلّا أنه ليس كافيًا؛ فالرشد يتطلب بالطبع أن يكون المرء قد بلغ جنسيًّا أولًا، إلّا أن البلوغ الجنسي لا يؤدي -حتميًّا- إلى الرشد, وقد أشرنا في الفصول السابقة كيف أن النمو الإنساني في المجتمعات الحديثة تَطَلَّبَ ظهور مرحلة أو أكثر من المراحل الانتقالية بين الطفولة والرشد؛ فالمراهقة هي طور البلوغ الجنسي خاصةً، وما يصاحبه من تغيرات جوهرية, وقد أطلقنا عليه طور بلوغ الحلم, وهي تسميةٌ قرآنية، أما طور الشباب فهي تلك الفترة الانتقالية بين اعتماد الضعف الأول "الطفولة والصبا" وقوة الرشد, وأطلقنا عليه تسمية قرآنية أخرى هي طور بلوغ السعي.
وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن ذلك بوضوح؛ ففي الآية الكريمة السابقة اعتبر
بلوغ النكاح "وهو البلوغ الجنسي" شرطًا سابقًا على الرشد، ولكنه تَطَلَّبَ منا أن نتحقق من حدوث هذا الرشد بالفعل، وهذا يعني أن الرشد قد يصاحب البلوغ الجنسي, وقد يأتي بعده, إلّا أنه بالطبع لا يسبقه.
وقد كان الرشد يتطابق مع البلوغ الجنسي في الثقافات البدائية, كما يتطابقان في بعض الثقافات البسيطة الحديثة "كالثقافة الريفية أو الثقافة البدوية", إلّا أنه مع تقدُّم المدنية تَطَلَّبَ الأمر دفع العمر المعترف به للرشد بعد سبع أو ثماني سنوات من طور البلوغ الجنسي للفرد "المراهقة", وبالمثل فإن "سن اليأس" أو التغير في الحياة من الشخص الجنسي إلى الشخص اللاجنسي asexual لا يعني فقدان الرشد.
2- محك العمر:
تتفق معظم الثقافات المعاصرة، ومنها مصر والدول العربية والإسلامية، على أن الإنسان يصل إلى رشده عند بلوغ الحادية والعشرين، وهو السن الذي يتحدد قانونيًّا بأنه إذا بلغه المرء استقلَّ بتصرفاته.
والسؤال الجوهري هنا: لماذا سن الحادية والعشرين كمحدد للرشد؟ ربما يفيدنا أن نجيب على هذا السؤال أن نتناوله في ضوء تحديد ما يسمى الحدث1 juvenile من ناحيةٍ، وفي ضوء قوانين العمل، باعتبار العمل هو أهم مؤشرات الرشد "كما سنبين فيما بعد" من ناحيةٍ أخرى. إن قوانين العمل في مصر تمنع تشغيل الأحداث قبل سن 12سنة, وذلك بالنسبة إلى الأفراد الخاضعين لقانون العمل في جمهورية مصر العربية، وأجاز القانون لوزير العمل أن يمنع تشغيل من لم يبلغوا سن 15 سنة في بعض الصناعات "قرار رقم 154 لسنة 1959", كما أجاز له أن يشترط لتشغيل هؤلاء الأحداث في بعض الصناعات أن تكون له تذاكر عمل تثبت مقدرتهم الصحية على القيام بها, كما أجازت المادة 124-3 من قانون العمل المصري لوزير العمل أن يمنع تشغيل الأحداث الذين تبلُغ سنهم 17 سنة كاملة في بعض الصناعات الأخرى "قرار رقم 156 لسنة 1959".
ولكن من هو الحدث الذي تشير إليه النصوص السابقة؟ تحدد معظم التشريعات المعاصرة الحد الأدنى للحدث "وهو حد المسئولية" ما بين 7، 8 سنوات "وهو سن التمييز في الشريعة الإسلامية"، والحد الأقصى بين 16، 18
سنة, وهذا المحك العمري يشمل فئة من الصبية والناشئة والفتيان, وأطلقت عليهم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في ندوةٍ عقدتها بالكويت عام 1976 تسمية "فئة اليافعين", ويمثل الحد الأقصى لهذه المرحلة مظاهر استقلالٍ متعددةٍ تُمَثَّلُ في الوصول إلى الأهلية للمواطَنَةِ الكاملة، ومن مظاهر ذلك الحصول على البطاقة الشخصية, وبطاقة قيادة السيارة, والمثول أمام سلطات التجنيد الإجباري، وحق العمل بلا قيد، وحق الزواج وتكوين الأسرة للمرأة "في سن 16", وللرجل "في سن 18"، ناهيك عن المسئولية الجنائية الكاملة. والتناقض الجوهري "من الوجهة القانونية والتشريعية" أن يُوصَفَ هذا المواطن الذي يبلغ من العمر "16-18 سنة بأنه "قاصر", أو بأنه "طفل" كما هو الحال في قانون الطفل الجديد في مصر، بالرغم من هذا كله, وعليه أن ينتظر من 3-5 سنوات حتى يبلغ سن الرشد الذهبي 21 عامًا, فهل يستطيع علم النفس أن يحل هذه المعضلة؟ وهل نستطيع من خلال نتائجه ونتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى أن نتوصل إلى محكات أكثر تحديدًا للرشد؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها على درجة كبيرة من الأهمية في هذا الصدد، وخاصةً إذا تنبهنا إلى بضعة حقائق سيكولوجية أفرزها العصر الحديث, نذكر منها:
1- تناقص الوعي بالتغيرات الفسيولوجية والسيكولوجية التي تحدث مع بلوغ الرشد والتقدم فيه، وذلك لأن الوسائل الطبية الجديدة والتغيرات في "موضات" الأزياء تساعد الرجال والنساء من مختلف الأعمار على أن يبدوا ويشعروا ويتصرفوا كما لو كانوا في غير أعمارهم, وخطوط التقسيم بين الأعمار المستخدمة في الوقت الحاضر هي معالم عامة وليست حدودًا خاصة فاصلة، وتظهر على وجه الخصوص حين يُتَوقَّعُ من المرأة أو الرجل أن يظهروا "في المتوسط" بعض التغيرات في المظهر, أو وظائف الجسم, أو جوانب السلوك، أو حين تؤدي الضغوط البيئية في ثقافة معينة إلى ظهور مشكلات تَوَافُقٍ لا يستطيع تجنبها إلّا القليل من الرجال أو النساء من عُمْرٍ معين.
2- تغير أدوار بعض المراهقين "ابتداءً من سن 16"، بل وبعض الأطفال حين يدخلون عالم العمل خاصةً مبكرين، فهم يسلكون سلوك الراشدين على نحوٍ أكثر تبكيرًا من أقرانهم الذين يواصلون تعليمهم، صحيح أنهم يحرمون من فرصة جعل هذا الانتقال من الطفولة إلى الرشد بطيئًا خلال طَوْرِيْ المراهقة والشباب, إلّا أنهم يَتَّسِمُونَ بالفعل بكثيرٍ من سمات الراشدين, على الرغم من أنهم لم يبلغوا سن
الحادية والعشرين, إلّا أن الأخطر من هذه حقًّا ما يحدث حين تطول فترة الاعتماد وتمتد أحيانًا إلى ما بعد سن الحادية والعشرين, على نحوٍ يشبه اعتماد الأطفال أو المراهقين الصغار، وخاصةً حين يلعب المراهق الكبير أو الشاب دور "الطالب", ويظل يحمل هذه الصفة وحدها في نظر "الكبار".
3- الفوارق في التبكير بالرشد أو تأخيره, وخاصة بين الجنسين من ناحيةٍ، وبين المستويات الاقتصادية الاجتماعية من ناحية أخرىٍ؛ فالمراهقات الكبيرات تطول فترة اعتمادهن لأسباب ثقافية, والذكور من أبناء المستويات الاقتصادية الاجتماعية المتوسطة والعليا أكثر اعتمادًا من أبناء المستويات الدنيا، ربما لأن هؤلاء يدخلون عالم العمل أكثر تبكيرًا من أولئك.
وهكذا يصبح الرشد السيكلولوجي -في ضوء مؤشر الاستقلال- مسألة نسبية, فهناك من يصلون إليه مبكرين "ابتداءً من السن التي تخرجهم من فئة اليافعين أو الأحداث وربما قبلها", وهناك من تمتد بهم فترة الاعتماد إلى أعمار تتعدَّى سن الرشد القانوني في صورته الراهنة.
3- المحك الاجتماعي:
يبدو لنا من مناقشتنا السابقة لمحكي البلوغ الجنسي والعمر أن الفيصل في الحكم على رشد الإنسان يعود في جوهره إلى العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية, وهذا ما اتفق عليه فقهاء المسلمين في تعريفهم للرشد بأنه بلوغ الصبي "صالحًا في دينه مصلحًا لماله", وحسن التصرف في المال -كعلامة من علامات الرشد- يعني أن الفرد قادرٌ على شغل مكانته في المجتمع, والقيام بمسئولياته فيه, وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية هذا المحك في قوله تعالى عند الإشارة إلى السفة، وهو نقيض الرشد:
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... } [النساء: 5] .
كما يشير إلى هذا المحك الاجتماعي أيضًا عند الإشارة إلى ما يجب عمله عقب التحقق من بلوغ الصبي طور الرشد: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 4] .
ويُعَدُّ هذا من جوانب الإعجاز السيكولوجي للقرآن الكريم, ولعنا نشير هنا إلى أن علم النفس الحديث لم ينتبه إلّا مؤخرًا إلى أهمية محك الأدوار الاجتماعية في تحديد الرشد، باعتباره يفوق محك العمر الزمني, أو النضج البيولوجي, ولهذا فإن الشخص الذي يوصف الآن بالرشد هو ذلك الذي لم يعد طفلًا أو مراهقًا أو طالبًا
شابًّا، وإنما تحوَّلَ إلى أدوارٍ جديدة: الساعي لكسب العيش من خلال عمل منظم ومستمر، الزوج أو الزوجة، الوالدية, إلخ, وفي عملية التحوّل إلى الرشد يختلف الأفراد اختلافاتٍ جوهرية في توقيت هذه المهام التي يؤدونها, والأدوار التي يقومون بها, وبعبارة أخرى فإنهم يصلون إلى "مكانة الرشد" في أوقات مختلفة.
ولعلنا هنا نعيد الإشارة إلى ما سبق أن ذكرناه, من أن بعض الأشخاص قد يصلون إلى سن الخامسة والعشرين وهم لا يزالون في مرحلة التعليم، بينما يمارس غيرهم دور الزوج والوالد قبل هذه السن بسنوات، بل إن بعضهم قد يدخل سوق العمل قبل ذلك ببضع سنوات كذلك "بعد إنهاء مرحلة التعليم الأساسي في سن 15 سنة, وربما قبلها فيما اصْطُلِحَ على تسميته "عمالة الأطفال".
4- المحك السيكولوجي:
المحك الاجتماعي للرشد الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة هو محكٌّ موضوعيٌّ، إلّا أن هناك محكًّا سيكولوجيًّا يعتمد على الخبرات الذاتية للفرد، يضاف إليه ويجعله جزءًا من البنية الأساسية لشخصية الفرد, ويشير علماء النفس المعاصرون إلى بضعة مؤشرات توجه هذا المحكَّ السيكولوجي, تشمل ما يلي:
أ- العمر المدرك Perceived age: ويُقْصَدُ به العمر الذي يشعر فيه الفرد شعور ذاتيًّا أنه أصبح راشدًا, ومن الواضح أن إدراكنا لأنفسنا يعكس كثيرًا من الجوانب المختلفة "العمر الزمني، النضج البيولوجي، الأدوار الاجتماعية التي نمارسها، التوافق النفسي والاجتماعي وغيرها", ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يشعر بعض الأشخاص ويتصرفون كأنهم راشدون وهم لا يزالون ربما في طور الطفولة1, بينما نجد آخرين في منتصف العشرينات من العمر أو أواخرها, ومع ذلك يعانون من صراعٍ بين حاجاتهم ورغباتهم التي تبدو طفولية, وبين شخصية الراشد التي يصبون إليها.
ب- الاستقلال: المؤشر السيكولوجي الرئيسي للرشد هو الاستقلال, فمع الرشد يشعر المرء أنه مسئول عن نفسه وعَمَّنْ يعول، ويتخذ قراراته بنفسه دون حاجة مستمرة إلى دعم الآخرين "وخاصة من هم أكبر منه مثل الوالدين والمعلمين", ويتجه الاستقلال على وجه الخصوص إلى تلك القرارات التي تتصل بحياة الراشد الشخصية, سواء كانت هذه القرارات تافهة أو هامة, ثم إنه لا يحب أن يتدخل الآخرون في هذه الشئون، ويتحمَّل المسئوليات والنواتج المترتبة عليها.
الذي يتفق في جوهره مع مؤشر الاستقلال والمعالجة والتقصي والبحث, والتي ترتبط جميعًا بهذا النوع من التعلُّم، وتدل على تنوع الاهتمامات والميول، فإذا توقف الراشد عن التعلم كان هذا علامة النهاية من الناحية السيكولوجية.
وقد أشار القرآن الكريم إشارةً صريحةً إلى أهمية التعلم في حياة الراشدين, يقول الله تعالى في وصفه لمرحلة الشيخوخة المتأخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ... } [الحج: 5] .
وإذا كان فقدان القدرة على التعلُّمِ هو المحك القرآني الرئيسي للشيخوخة المتأخرة "الهرم أو أرذل العمر", فإن توافُرِ هذه القدرة واستمرارها في مراحل العمر السابقة على هذا التدهور في حياة الإنسان مؤشر على استمرار الرشد الإنساني.
وإذا كان الاستقلال الذي أشرنا إليه محكًّا لتحديد الرشد هو في جوهره نتاجٌ للتعلم الاجتماعي, يصبح التعلُّم حينئذٍ هو جوهر حياة الراشدين بدءًا وانتهاءً، صحيحٌ أن لكلٍّ من البداية والنهاية حدوده التشريحية والفسيولوجية والنيرولوجية، بل والقانونية، إلّا أن الرشد السيكولوجي لا يتحدد إلّا بشغفٍ إلى مزيدٍ من التعلُّم عند الاستقلال، ثم توقُّفٌ عن التعلم عند العجز والهرم، بل نكاد نقول: إن التوقف عن التعلم هو اللحد السيكولوجي للإنسان, حتى ولو عاش من بعده أعمارًا وأعمار
الحدود العملية للرشد:
حتى يمكن تناول مرحلة الرشد لا بُدَّ من اللجوء إلى بعض الحدود العملية التي تسمح لنا بتحديد نقطة البدء, ويمكن بالطبع أن نعتبر العمر القانوني للرشد من نوع هذه الحدود, صحيح أنه ليس محكًّا صارمًا جامدًا فاصلًا، وإنما هو من المرونة بحيث يسمح باستيعاب َمْن تتوافر فيه مؤشرات الرشد قبله أو بعده.
وعلى هذا, فإن الفترة من سن الرشد القانوني "21 عامًا" وحتى سن الأربعين تقريبًا, هي ما يصفه علماء النفس الارتقائيون بطور الرشد المبكر, وسوف نشير إليه بطور "بلوغ الرشد" التزامًا بالتعبير القرآني, وهو الطور الذي تحدث فيه أكبر عمليات التوافق في حياة الإنسان، وهذا ما يجعل له خصائص مميزة عن الأطوار والمراحل التي سبقته وتلك التي تليه.
ومع بلوغ سن الأربعين يكون المرء قد وصل إلى طور "بلوغ الأشد" -حسب التعبير القرآني الكريم- وبدأ طورًا جديدًا يسميه علماء النفس الارتقائيون أيضًا طور الرشد الأوسط, أو وسط العمر، والذي يمتد حتى سن الستين أو بعده بقليل, ومن الغريب أن هذه المرحلة هي الأقل استطلاعًا وبحثًا من بين جميع مراحل العمر، لأنه حتى عهد قريب لم تكن هناك إلّا مشكلات قليلة لا تتعدى حدود المشكلات الفسيولوجية المرتبطة بما يُسَمَّى التغيرات مدى الحياة, والتي بدت هامة لدرجة جذبت انتباه علماء النفس الذين شغلتهم على التوالي: الطفولة فالمراهقة, ثم ازداد الاهتمام بالشيخوخة في السنوات الأخيرة، ثم بمرحلة الرشد المبكر. أما طور بلوغ الأشد أو وسط العمر "الرشد الأوسط" فلا زالت أقل المراحل بحثًا، فلا يتوافر حولها قدر كافٍ من البحوث والمعلومات العلمية
Post a Comment
Post a Comment